دراسات إسلامية

 

دارالعلوم.. في مجال الدفاع عن الإسلام

(2)

بقلم:  الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

 

 

 

3- القاديانية

     لقد شهدت الهند في تاريخها الطويل كثيرًا من الفِرَق الضالّة والدعوات الهدّامة والحركات المعادية للإسلام والمسلمين، من أشدِّها خطرًا على دينهم وعقيدتهم، وأعمِّها شرًا، وأبعدها ضلالاً، وأبرعها تخطيطًا، وأكثرها اصطيادًا للسُذّج من المسلمين في حبائلها فرقةُ القاديانية التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

     تُنسَبُ هذه الفرقة إلى صاحبها المرزا غلام أحمد القادياني المتنبئ، وتُعرَفُ بالجماعة الأحمدية كذلك.

مؤسسها:

     وُلِدَ المرزا غلام أحمد القادياني عام 40/1839م في أسرة مسلمة إقطاعية بقرية «قاديان» من أعمال مديرية «غورداسفور» بولاية «بنجاب» في الهند، وأخذ العلوم العربية والإسلامية، واللغات الفارسية والعربية والإنجليزية من علماء عصره.

      ثمَّ عمِلَ كاتبًا رسميًا في محكمة «سيالكوت» على راتب ضئيل، وذلك عام 1864م. ولم تستمرَّ وظيفته هذه مدَّة طويلة، وإنما استقال منها وعاد إلى مسقط رأسه «قاديان» حيث ساعدَ أباه في المحاكمات العقيمة التي رفعها إلى المحكمة لاستعادة بعض إقطاعاته.

تحركاته ونشاطاته:

     بدأ المرزا غلام أحمد نشاطاته وتحركاته كداعية إلى الإسلام ومدافعٍ عنه ومناظر، وكان ذلك العصر يموج بالفرق والنحل  المختلفة من المسيحية والآرية والنيجرية وما إليها، والتي كانت تُثير شبهات ضدّ الإسلام، فكانت الظروف تقتضي أن يهبَّ من العلماء من يُناظرها ويقاومها.

     كما أنَّ منطقة «بنجاب» ما زالت منذ قديم الزمان مسرحًا للنصّابين والمُشعوِذين من علماء السوء الذين يتخذون جماهير الناس من المنطقة فريسة طيَّعة لهم.

     اغتنم المرزا غلام أحمد هذا الزمان والمكان، ونزل إلى الميدان داعيًا ومناظرًا، وسرعان ما استمال نفوس المسلمين إليه، وحصد إعجابهم وأصبح محبوبًا إليهم ومعروفًا في أوساطهم.

دعاويه:

     أعلنَ في مريديه ومؤيِّديه أنَّه سيؤلِّف كتابًا باسم «البراهين الأحمدية في إثبات حقيقة كتاب الله القرآن والنبوة المحمدية» يشتمل على 300 برهان على حقية الإسلام، وأنه سيكون في 50 مجلدًا، وطلب منهم المعونة المادية لطباعته وإخراجه.

     وفعلاً ألف الكتاب، وصدرمنه 4 أجزاء في الفترة ما بين 1879-1884م، وكان موضوع الكتابِ التدليلَ على حقية الإسلام والبرهنة عليها، فلقي إعجابًا وقبولاً في أوساط القرَّاء، وقد أشادت به بعض الصحف والمجلات إشادة كبيرة. بيد أىَّه ضمَّنه من إلهاماته وحواراته مع الله ونبوءاته ودعاويه الشيء الكثير.

     ثم توالت كتبه ورسائله وإعلاناته التي كانت تشتمل على دعاويه  المتنوعة، وقد تدرّج وتلوَّن في دعاويه تلوَّن الحرباء، وسلك في تمشية مرامه وتعمية كلامه مسلكَ الزنادقة والباطنية، فادَّعى أولا أنه: مجدّد، ومثيل للمسيح، ثم انتقل إلى أنه هو المهدي الموعود والمسيح المعهود، و أنه نبي لغوي أو ظلي أو بروزي، على معان اخترعها، ثم تحوَّل إلى أنه نبي غير تشريعي ورسول كذلك، ثم إلى أنه نبي تشريعي ورسول. وتحدى بالآيات، وجعل وحيه كالقرآن، وجعل يحاكي معجزات سائر الأنبياء، وخاتم الأنبياء أيضًا، فجعل مسجده «المسجد الأقصى» وقريته «مكة المسيح»، و جعل «لاهور» مدينته، وجعل لمسجده منارة سماها «منارة المسيح»، فحمل كلَّ ما يتعلق بعيسى عليه السلام على التأويل إلا المنارة، فقد بناها بالمال الذي جمعه من أتباعه، وجعل مقبرة سمَّاها «مقبرة الجنة» من دفن بها فهو من أهل الجنة، وسمى أزواجه «أمهات المؤمنين»، وأتباعه «أمته» وظلَّ يدعي الوحي والمعجزات، ويتنبَّأ بالنبوءات  حتى مات عام 1908م(1).

عوامل نشأة القاديانية:

     لماذا تنبّأ المرزا غلام أحمد؟ أ تنبّأ على هوى من نفسه وإلقاء من شيطانه، أم لعوامل سياسية دفعته إلى إتيان هذه الجرأة الوقحة التي لم يتجرأ عليها إلا المعدودون على الأصابع عبر التاريخ الإسلامي؟

     مما يُقطع به أنه تنبَّأ على إيعازٍ من الحكومة الإنجليزية في الهند وإغراء منها. فعند ما غزا الإنجليز الهند واستولوا عليها ذاقوا من المسلمين مرارة الجهاد، ولا سيما في عام 1857م.

     ففكروا أنه لا بدَّ للسيطرة على الهند واستمرار حكمهم فيها من نسخ الجهاد، وهو لا يُنسخ إلا بالوحي، والوحي لا ينزل إلا على النبي، فيجب أن يكون رجل يدَّعي النبوة، ونزولَ الوحي، ونسخَ الجهاد.

     وقع اختيارهم لهذه الغرض الهامّ على المرزا غلام أحمد، فمارس عميلا لهم تحقيقًا لمرامهم. ولما كان يعرف جيدًا أن ادعاء النبوة- بعد سيدنا محمد خاتم النبيين صلاة الله وسلامه عليه جريمة لا يغتفرها المسلمون اتخذ طريقًا طويلاً للوصول إلى غايته المنشودة، فادعى في بداية أمره أنه مُلْهَمٌ من الله ومحدّث، ثم تدرج فادعى أنه مجدد، وأنه مثيل المسيح، ثم أنه هو المهدي والمسيح، ثم أنه هو النبي بالمعنى اللغوي والمجازي، وأنه هو نبي غير تشريعي، ثم أنه نبي تشريعي ورسول»

     هكذا أبدى في نهاية أمره ما نواه في أول أمره. ولو باح بما نواه في بداية الأمر لثار عليه المسلمون، وقضوا عليه قضاءً باتًا.

     وقد عمل لصالح الحكومة الإنجليزية، حيث قال: إن الجهاد قد نُسِخ، وإن الحكومة الإنجليزية تفترض طاعتها؛ لأنها ظل الله في الأرض.

     كما اعترف في بعض كتاباته أنَّ  أسرته ساعدت الإنجليز بالعَدَد والعُدد في ثورة عام 1857م، وأنَّ جماعته هذه شجرة غرستها يد الحكومة الإنجليزية.

     ومما يؤيد كونه عميلاً للإنجليز أنه عندما كان يعمل كاتبًا في محكمة «سيالكوت» يأتي إليه الإنجليز ذوو المناصب الهامة ويخلون به، مما يندهش له الموظفون. وقد ساعدته الحكومة الإنجليزية في كل مرحلة من مراحل مشواره، وبذلت لمن يقتدي به المال والمناصب، حتى أعلن عن نبوته.

     ومن الحقائق المعروفة الآن أن الدول الغربية والكنائس تُموِّل القاديانية، والبهائية، والماسونية، وكثيرًا من المذا هب المنحرفة عن جادة الصواب، تموِّلها بالمال وتموِّل مؤامراتها وتضع أمامها كلَّ التسهيلات(2).

فتاوى العلماء في الرد عليه:

     لـمَّا صدرَ الجزء الأول من كتابه: «البراهين الأحمدية» و وصل إلى الأوساط العلمية، تفطَّنَ العلماء الراسخون لما يتضمّنه الكتاب وما يُضمِره صاحبه في أعماق نفسه من ادّعاء النُبُوَّة في مستقبل الأيام.

     وَرَد المرزا غلام أحمد بمدينة «لدهيانه» بعد صدور الجزء الأول من هذا الكتاب، فتصدَّى له علماءها بالمعارضة، منهم الشيخ عبد الله اللدهيانوي الذي ذهب إلى مقرَّه الذي كان حافلاً بمؤيديه ومريديه، فما إن رأه حتى قال لمن حوله: «لاتُبايعوه؛ فإنَّه مرتدٌّ  وكافر، إنه لايدَّعي لنفسه تجديد الدين، وإنما يدعي النبوة».

     عجِب الحضورُ من مقالة الشيخ واندهشوا متسائلين: كيف رماه الشيخ بالردَّة والكفر، دونما حجة وبرهان؟.

     هنالك قام أخوه الشيخ محمد اللدهيانوي- جدُّ الشيخ حبيب الرحمن اللدهيانوي، وأستاذ الشيخ عبد الرحيم الرائفوري- بدراسة «البراهين الأحمدية» دراسة نقدية طوال الليل حتى أفتى في الصباح في ضوء كتاباته بأنه مرتَدٌّ وكافر، وهذا أول فتوى صدرت من مشايخ دار العلوم وعلمائها.

     كما أنَّ الفقيه المحدث  الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي درسَ ما جاء في كتبه ومؤلفاته من دعوى كونه مجدِّدًا وملهمًا، ومهديًا ومسيحًا موعودًا، ورسولاً نبيًا، فأفتى بسبع فتاوى تمشيًا مع دعاويه المتنوِّعة المتدرِّجة، وهي كلها تتلخَّص في أنَّ المرزا غلام أحمد فاسق ضالّ مضلّ كذّاب دجَّال، لا يجوز الاجتماع به، وبمريديه وتلاميذه(3).

     كذلك صدرت فتوى في شأن المرزا غلام أحمد من دار العلوم عام 1331هـ، كتبها المفتي سهول أحمد، ووقَّع عليها شيخ الهند محمود حسن الديوبندي، والعلامة محمد أنور شاه الكشميري. ثم صدرت فتوى أخرى كتبها المفتي الأكبر المفتي عزيز الرحمن العثماني، و وقَّع عليها كبار علماء الهند وذلك عام 1336هـ.

     ثم أفتى كلٌ من مدرسة مظاهر علوم بسهارنفور، ودارالعلوم التابعة لندوة العلماء، بلكناؤ.

     كانت دعاويه وأقواله متضاربة ومتناقضة، فكان أمره غُمَّة على الناس، وموقفه غامضًا عليهم، فلمَّا صدرت هذه الفتاوى حصحص لهم الحقُّ، وانكشف عليهم ضلاله و زندقته.

مباهلته ومناظراته:

     كان الشيخ ثناء الله الأمرتسري- أحد أبناء دارالعلوم- دائم الاطلاع على نشاطات المرزا غلام أحمد لقرب مدينته «أمرتسر» من «قاديان»، وكان يُصدِرُ صحيفة «أهل الحديث» منها، فدرس مؤلفاته وكتبه وانتقدها انتقادًا لاذعًا، وكشفَ عن دجله وضلاله، حتى ضاق به ذرعًا، ممَّا اضطُرَّ إلى أن تحدَّى الشيخ مباهلا في إعلانٍ أصدره في 5/أبريل 1907م، وقد جاء في الإعلان:

     «إن كنتُ مفتريًا وكذَّابًا - كما تَصِفني في صحيفتك في أكثر الأحيان- أموت في حياتك؛ لأنّي أعلم أن المفسد والكذّاب لا يطول عمره، وإنما يموت ذليلا مهينًا في حياة ألدّ أعدائه، وموته خير من حياته، لئلا يُضِلَّ الناس.

     وإن لم أكن كذَّابًا ومفتريًا، وأحظى بكلام الله والحديث معه، وأنا مسيح موعود، أرجو من الله عزَّ وجلَّ أنّك لن تنجو من عقاب الله تبعًا لسنة الله في المكذِّبين. فإن لم ينزل العقاب بأيدي الناس، فالله يعاقبك بالطاعون إن شاء الله، وإن لم يُصبك الطاعون فأنا لست من الله».

     لقد قرأ هذا الإعلانَ آلافٌ من الناس، وشاع بينهم وذاع، وأخذوا ينتظرون المصير بعده. فضح الله هذا المتنبئ وبرهنَ على كذبه- كما ادَّعى في إعلانه- حيث مات مصابًا بالهيضة بعد الإعلان بعام في 26/مايو 1908م.

     أما الشيخ ثناء الله الأمرتسري فقد بقي بعد موته أربعين سنة حيًّا يُرزَق، فتوفي في 15/مارس 1948م(4).

     لم تمتْ فتنة المتنبئ بعد موته، وإنما هي باضت وفرّخت، واستفحل شرُّها، فقد كان في حياته عدد لابأس به من أتباعه، فبعد موته خلَفَه خلفاؤه، فكانوا ينشرون الضلال في أوساط المسلمين بأساليب متنوعة.

     هنالك قام مشايخ دار العلوم وأساتذتها ومنسوبوها من العلماء المنتشرين في طول البلاد وعرضها وشدُّوا مئزرهم لمقاومة القاديانية  وكشف عُوارها و وإبداء سوءتها بما أمكن لهم، فقد أفحموهم بالمباهلات والمناظرات والحوارات ميدانيًّا، وبالكتب و المؤلفات والرسائل علميًّا.

     ومن مشايخ الدار و علمائها الذين قاموا بخدمات جليلة  في مقاومة القاديانية ومناظرتها والتاليف ضدَّها العلامة محمد أنور شاه الكشميري، والشيخ محمد علي المونكيري، والشيخ أحمد حسن الأمروهوي، والشيخ حبيب الرحمن العثماني، والعلامة شبير أحمد العثماني، والشيخ عبد السميع الأنصاري الديوبندي، والشيخ محمد مسلم الديوبندي، والشيخ مرتضى حسن التشاندفوري، والشيخ أحمد علي اللاهوري، والشيخ حبيب الرحمن اللدهيانوي، والشيخ ثناء الله الأمرتسري، والمفتي محمد شفيع العثماني، والشيخ محمد إدريس الكاندهلوي، والشيخ بدر عالم الميروتي، والشيخ محمد علي الجالندهري، والشيخ أبو الوفاء الشاهجهانفوري، والشيخ نورمحمد التاندوي، ومن إليهم.

     إلا أن العلامة محمد أنور شاه الكشميري له القدح المعلى في مقاومة هذه الفرقة الضالة، فقد كان شديد الحزن  كثير الاهتمام لانتشار هذه الفرقة. قال الشيخ:

     «لما انتشرت هذه الفتنة العمياء كان لا تأخذني نومة كمدًا واضطرابًا من هذه الرزية الدهماء، فأقلقني جدًا مخافة أن يقع بها ثلمة في الدين يعتاص سدادها، وغلبني الأرَق والسُّهاد حتى مضت عليَّ ستة شهور كاملة في هذه الحالة المقلقة والمذيبة، حتى ألقى الله في روعي أن ستبيد شوكتها وتضعف صولتها»(5).

     رَكّزَ العلامة عنايته على القاديانية، فناظرهم بلسانه وقاومهم بقلمه، حيث ألَّف كتبًا قيمة كشفت عن دجل المرزا غلام أحمد ومكره وضلاله وزندقته، ومهدت السبيل للدول الإسلامية والمؤتمرات العالمية لاتخاذ القرار ضد القاديانية.

     كما أشرك العلامة في هذه المهمة النبيلة- ملاحقة القاديانية ومطاردتها- مجموعة من أصحابه الأفاضل الذين مازالوا يضطلعون بها حتى اضطروا مجلس الأمة الباكستاني على اتخاذ قرار يعتبر القاديانية أقلية غيرمسلمة.

     استمرَّ علماء دار العلوم في مباهلتهم ومناظراتهم، فتحدَّى بالمباهلة المفتي الأكبرُ كفايةُ الله الدهلوي رئيسُ جمعية علماء الهند المرزا محمود- الخليفة الثاني للمرزا غلام أحمد القادياني- ، ولكنه لم يجرؤ أن يُجيبَ هذا التحدّي الصارخ، وظلَّ ساكتًا صامتًا.

     ثمَّ أرادَ المرزا محمود أن يستلفت انتباه الناس إلى القاديانية، فدعا علماء دار العلوم للمباهلة في إعلان نُشِر في صحيفة «الفضل» الصادرة من «قاديان» في 13/ربيع الآخر 1337هـ= 16/يناير 1919م.

     قبِل علماء دارالعلوم هذا التحدِّي، حيث قاموا بتعيين فضيلة الشيخ عبد السميع الأنصاري الديوبندي- أحد أساتذة دارالعلوم- ممثَّلاً لهم للمراسلة في شأن المباهلة وتحديد شروطها. فجرت بين مُمَثِّل دارالعلوم والمرزا محمود مراسلات ومكاتبات واستمرَّت بضعة أشْهُر، حتى أبلغه مُمثِّل دار العلوم بشروط المباهلة في إعلان نشره 18/ ربيع الأول 1337هـ= 21/ يناير 1919م، وقد جاء فيه:

     «نحن نحيطكم علمًا بأنّا نناظركم في نبوة المرزا أولا على أعين الناس، فإن لم ينكشف الحق نبتهل إلى الله ونجعل اللعنة على الكاذبين».

     ولمَّا كان إثبات نبوة المرزا غلام أحمد أصعبَ من تحصيل المستحيل وتحقيق الممتنع للقاديانيين، لاذ المرزا محمود بالصمت، ولم يجترئ على التحدِّي بالمباهلة مرَّة أخرى.

     ثمَّ شنَّ علماء دار العلوم ومنسوبوها حملةً واسعة للرد على القاديانية ومكافحتها في طول البلاد وعرضها، فحيثما نشر القاديانيون أضاليلهم وأباطيلهم لاحقهم علماءها وطاردوهم، وعرَّفوا عامَّة المسلمين بضلالهم وزندقتهم، وأنقذوهم من الوقوع في فخّهم.

مناظرة «مونغير» بولاية بيهار:

     لما بلغ الشيخَ السيد محمد علي المونغيري- مؤسس دارالعلوم التابعة لندوة العلماء- أنَّ القاديانيين أخذوا يُمارسون نشاطاتهم في المناطق التابعة لولاية بيهار، ويصطادون الأغرار من المسلمين، نهض الشيخ لمقاومتهم، وأعدّ تلاميذه ومعارفه ونشرهم في المناطق لمكافحتهم وتبكيتهم. كما ضرب الموعد للمناظرة معهم في مدينة مونغير عام 1911م، أي بعد موت المرزا غلام أحمد بثلاث سنوات. استعدَّ الفريقان للمناظرة أيَّما استعداد، فقد حضرمن علماء المسلمين 40 عالمًا من كبار علماء الدار ومنسوبيها، بمن فيهم العلامة محمد أنور شاه الكشميري، والعلامة شبير أحمد العثماني، والشيخ مرتضي حسن التشاندفوري. وأما من قبل الفريق الثاني فقد كان الحكيم نور الدين البهيروي الخليفة الأول للمرزا غلام أحمد، وسرور شاه الكشميري، وروشن علي من دُعاة القاديانية.

     التقى الجمعانِ في اليوم الموعود، فجعل الشيخ محمد علي المونغيري الشيخَ مرتضى حسن التشاندفوري ممثلاً له في المناظرة، أما الشيخ محمد علي نفسُه فقد خرّراكعًا يتضرع إلى الله، وظلَّ كذلك حتى  حقق الله النصر للمسلمين.

     ألقى الشيخ مرتضى حسن كلمته القيِّمة في مجلس المناظرة، فلمَّا أنهى كلمته طلب الناس من مناظري القاديانيين الإجابة، ففرُّوا من مجلس المناظرة قائلين: لا طاقة لنا اليوم بالإجابة.

     هكذا انتهت المناظرة وحقق الله النصر للمسلمين.

     لقد ألَّف الشيخ محمد علي المونغيري نحو50 كتابًا مابين صغير وكبير في الردّ على القاديانية، ونشرها و وَزَّعَها على نطاق واسع في المناطق المهددّة بالقاديانية، وقد نُقِل بعضها إلى اللغات الأخرى، وهي كتب  تنوب عن كتائب، فحيث ما وصلت كفت شرَّ القاديانيين وفتنتهم.

حملة جديدة ضد القاديانية:

     مازال مشايخ دارالعلوم وعلماؤها وأبناؤها والمنتسبون إليها يُناظرون القاديانيين ويُحاورنهم  ويتحدَّونهم  ويُباهلونهم، ويؤلُّفون فيهم ويردُّون عليهم، حتى جاء عام 1932م، فاقترب أوان اعتبار القاديانية فرقة غير مسلمة على مستوى البلاد؛ لأنَّ القاديانيين يُمارسون نشاطاتهم في المجتمع الإسلامي ويستعملون الأسماء والمصطلحات الإسلامية، ويخدعون عامة المسلمين، مما يختلط به الحابل بالنابل عليهم ويصعب الفرق لهم بين المسلم والقادياني؛ لذلك فقد كانت القاديانية في انتشار مستمر في أوساط المسلمين.

     هنالك قام علماء الدار بشنِّ حملة جديدة لملاحقة القاديانية ومطاردتها، والحملة تعني أن يقوم العلماء بجولات واسعة في مدن ولاية «بنجاب» وماجاورها توعيةً للمسلمين  وإشعارًا لهم بأخطار القاديانية. وقد قام بتخطيط الحملة العلامةُ محمد أنور شاه الكشميري، والعلامة شبير أحمد العثماني، والشيخ مرتضى حسن التشاندفوري، وقد أخذ العلامة الكشميري تلاميذه للمساهمة في الحملة مثل: فضيلة المفتي محمد شفيع العثماني الديوبندي، والشيخ محمد إدريس الكاندهلوي والشيخ بدرعالم الميروتي.كما أخذ العديد من علماء «بنجاب» للمشاركة في الحملة.

     تنفيذًا للحملة قام هؤلاء بجولات واسعة في كل من: «لدهيانه»، و«أمرتسر»، و«راولبندي»، و«أيبت آباد»، و«مانسهره»، و«هزاره»، و«كهوتا» من مدن ولاية «بنجاب»، وألقوا فيها كلماتهم عن القاديانية في عامة المسلمين، وردُّوا على ما كان يختلج في نفوس بعضهم من شكوك وشبهات.

     وكان من الحملة أن يغزوا القاديانية في عقر دارها: «قاديان»، بأن يعقدوا اجتماعات وحفلات فيها لترشيد جماهير المسلمين، وفعلاً قاموا بعقد حفلات إصلاحية وتوجيهية في «قاديان»، حضرها العلامة محمد أنور شاه الكشميري، والمفتي محمد شفيع العثاني، والشيخ مرتضى حسن التشاندفوري، والشيخ محمد إدريس الكاندهلوي.

     فإن كانت هذه الحفلات والاجتماعات التي عُقِدتْ في «قاديان» للردِّ على القاديانية، عارًا على القاديانيين، وسُبّة عليهم، فقد كانت مغامرة عجيبة من قبل علماء الدار ورمزًا بارزًا لاهتمامهم بالدفاع عن حوزة الدين.

     أخذ القاديانيون يضعون المتاريس لمنع عقد الحفلات في «قاديان»، فطورًا استعانوا بالسلطات، وطورًا آخرأضرموا النار في المخيم، وطورًا ثالثًا أرسلوا إلى علماء الدار خطابًا غفْلا من الاسم يُهدِّدُونهم فيه بالقتل. رغم ذلك قد استمرّ عقدُها بضع سنوات.

     كان علماء الدار يرصدون نشاطات القاديانيين وتحركاتهم في البلاد، فحيثما وجدوهم ينشرون سمومهم وأباطيلهم، ويفتنون الأغرار من المسلمين، لاحقوهم وطاردوهم، وأنقذوا المسلمين من براثنهم.

مناظرة «فيروز فور»:

     تناهت إليهم أنباء بأن القاديانيين يتمركزون في مدينة «فيروز» بولاية «بنجاب»، ويتحدَّون جماهير المسلمين بالمناظرة، فقبل عدد من أغمار المسلمين تحديهم، ووافقوا - لعدم خبرتهم- على شروط تخدم مصالح القاديانيين، لا المسلمين.

     بعث الشيخ حبيب الرحمن العثماني، والشيخ العلامة محمد أنور شاه الكشميري، بأربعة مدرسين من دار العلوم إلى «فيروزفور»، وهم الشيخ مرتضى حسن التشاندفوري، والشيخ بدر عالم الميروتي، والشيخ محمد إدريس الكاندهلوي، والمفتي محمد شفيع العثماني الديوبندي. فلمَا وصلوا إليها وعرفوا أن القاديانيين اتفقوا بدهاء على شروط تنفعهم خلال المناظرة، فكَّروا وقدّروا، ولات ساعة تغييرالشروط. فرَضوا على كره منهم بهذه الشروط.

     ففي اليوم التالي بدأت المناظرة في الموعد المحدَّد، فإذا العلامة محمد أنورشاه الكشميري، والعلامة شبير أحمد العثماني قادمان صوبَ مجلس المناظرة. فلما رأى الشروط التي أُعمِل في تحديدها دهاءٌ ومكرٌ، قال العلامة للقاديانيين: نُعطِيْكم من الشروط ما تشتهون، ونحن مستعدُّون للمناظرة معكم دونما شروط.

     بدأت المناظرة واستمرَّت ثلاثة أيام، وكان المناظرَ في اليوم الأول المفتيْ محمد شفيع العثماني الديوبندي الذي تناول موضوع ختم النبوة وأشبعه شرحًا وبحثًا وتنقيحًا. وأما في اليومين الثاني والثالث فقد كان مناظِرَينِ الشيخُ بدر عالم الميروتي، والشيخُ محمد إدريس الكاندهلوي اللذان بحثَا في مواضيع أخرى.

     كان القاديانيونَ خلال المناظرات والمناقشات التي جرت ثلاثة أيام خُرْسًا بُكمًا، حتى أخذوا يطوُون كشحهم عن المناقشة  في الموضوع المحدَّد مُسَبَقًّا، وقد أمطر علماءُ المسلمين عليهم وابلاً من التساؤلات والاعتراضات حتى ضاقوا بها ذرعًا، ففرُّوا منهزمين في  اليوم الثالث. وقد اعترف القاديانيون المثقفون بالثقافة العصرية أنهم لم يتمكَّنوا من إثبات دعاويهم، وأما علماء المسلمين فقد كانت مقالتهم معضَّدة بالأدلة والبراهين، ونافذة إلى أعماق القلوب.

     وفي اليوم الرابع عُقدَ احتفال عامّ في المدينة، وعُرِضت فيه مداولات المناظرة أمام عامة المسلمين، وقد ألقى فيه كل من العلامة محمد أنور شاه الكشميري، والعلامة شبيرأحمد العثماني خُطَبًا مؤثِّرة، مِمَّا تابَ كثيرمن القاديانيين من الردة، وعادوا إلى حظيرة الإسلام.

الهوامش:

(1)      نفحة العنبر في حياة إمام العصر الشيخ الأنور، ص:195، 196.

(2)      جريدة الداعي، عدد خاص بختم النبوة، 22/ ربيع الثاني1407هـ=22/ نوفمبر 1986م.

(3)      باقيات فتاوى رشيدية، ص: 33-38.

(4)      دارالعلوم ديوبند احياء إسلام كي عظيم تحريك،ص: 204- 206.

(5)      نفحة العنبر،ص:204.

*  *  *



(*)   أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)

      sajidqasmideoband@gmail.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1437 هـ = يناير – فبراير 2016م ، العدد : 4 ، السنة : 40